قصة واقعية " الفهلوي "
للدكتور إسماعيل محمد النجار
4/9/2018
محمد شعبان مدرس لمادة التربية الرياضية ومدرب ألعاب القوى في النادي الأهلي المصري حصل على فرصة تعاقد للتدريس في اليمن على نفقة السعودية , شخصيته حركية يجيد حبك النكتة اللاذعة والساخرة ويتميز بمداعبته للوسط الذي يعايشه ولقبه (الفهلوي) لديه تصور مبالغ فيه عن اليمن واليمنيين ويصفهم بالتخلف والجهل وأن اليمن تعيش حياة بدائية لا توجد فيها طرق معبده ويشرب أهلها الماء من البرك الراكدة للأمطار, أما مطارهم الدولي لا يستوعب إلا طائرة واحدة وتحكم اليمنين الخرافات والغيبيات. عمر شعبان في تلك الفترة ثلاثون سنة ويتمتع بجسم رياضي وتبرز عضلات الصدر والعضد للخارج لتلفت الانتباه طويل القامة لا تفارق الابتسامة وجهه. قوي البنيه, ولديه القدرة لرفع سيارة متوسطة الحجم من الأمام أو الخلف وعندما يزعجه أو يداعبه أحد الأشخاص يحمله ويعلقه من إبطيه ويجعل رجليه تتحرك في الهواء ليضحك الآخرين ،وقبل وأثناء سفره لليمن مع مجموعة المدرسين المتعاقدين افرغ مخزون النكات على اليمن واليمنيين وأضحكهم لدرجه تشبيه الحياة في اليمن بالقبائل الافريقية في الغابات على الرغم من معارضة البعض. وعند وصولهم لمطار صنعاء الدولي وجدوا المطار ترابي ممسوح وغير معبد لدرجة ان الطائرة عند هبوطها ترتعش وتسقط الاغراض على الارض ويتمايل الركاب معها وبشكل مخيف ليتعمق كلام محمد شعبان في اذهانهم.
استقبلتهم في صالة المطار الملحقية الثقافية المصرية وأعطتهم الكثير من التوجيهات حول التعامل مع اليمنيين وبين الفترة والأخرى يعلق على اليمنيين ويضحك المتواجدين منذ وصولهم المطار وفي طريق المطار لصنعاء قال : منذ لحظة وصولنا المطار رأيت اليمنيين كالسلطة في ملابسهم واشكالهم أحدهم يلبس صندل وتنورة(الفوطة او الازرة) تشبه تنورة النساء وحول رأسه عمامة وكل عمامة تختلف عن الأخرى ، واخرون يلبسون جلابيات مع الخناجر وفي رؤوسهم طاقية وفي ارجلهم شرابات (جوارب) تصل لمنتصف الساقين ويلبسون جزمه, والبعض يلبس بنطلون بجامة وعليه قميص عسكري وشعره منفوش في كل الاتجاهات وفي رجليه صندل منزلي والغريب والعجيب لا يوجد اثنان من اليمنيين يتوافقان حتى في أجزاء من ملابسهم وكل واحد يتمتع ببصمة في ملابسة أما أشكالهم فتثير التأمل والاستغراب والضحك ، واحد طويل ووجهه ضعيف وراسه كبير واطرافه قصيرة والآخر قصير و نحيف ورقبته قصيره او مختفيه و آخر جذعه طويل و أطرافه قصيرة لا تتناسب مع طول جذعه و البعض وجهه صغير ورأسه كبير وطيلة الطريق لا تفارقهم الضحكة لدرجة اغماء البعض من شدة الضحك أما سائق الحافلة اليمني علي جبران (من صنعاء القديمة) ظل يسمع للنكات والضحك ووجهه محمرا ويضحك وهو محرج وفمه جاف من اللعاب طيلة الوقت وعند نزولهم من الحافلة الساعة العاشرة صباحا أخذوا جولة في صنعاء الجديدة وشاهدوا المباني المختلفة كاختلاف أشكال الناس وملابسهم فالمبنى الواحد يبنى من أحجار ألوانها مختلفة وبعضها من الاحجار والبلك والبعض الآخر من الاحجار و البلك والياجور وتتفاوت حجومها ونوافذها وابوابها ولا يوجد اثنان من المباني او البيوت تتشابه مع بعض لينكت خياليا عليها وساكنيها و يشبه اشكال ساكنيها مع اشكالها و عند مرورهم في الشوارع وجدوها ضيقة وبعضها ملتوية او مسدوده او منحدرة اما مطباتها تجعل رؤوسهم تصطدم بسقف الحافلة لتزيد من موهبته وخياله في تصوير المشهد والضحك. عرف محمد شعبان بنظافته لدرجة الوسواس فعندما يمد اليمنيين أيديهم لمصافحته أو تقبيله في وجهه يعتذر ويرفع يده للسلام عن بعد ليثير حنق كل من التقى به من اليمنيين وعندما يتحدث إليهم يظهر على كلامه السخرية ويوافقهم على كل ما يقولون ضاحكا وغامزا بعينه للأخرين مع تعليقات قصيرة ومقتضبة ومضحكة وبمجرد ما يدير الشخص ظهره يغمز بعينه باتجاهه ويخرج لسانه ويلوح بيده ليزيد ضحك من حوله وقد يعود الشخص لاستفسارهم ليرد انا اتكلم مع صاحبي فيعود ويواصل مسيره وهو محرج .
ارتبط سائق الحافلة علي جبران بعلاقة قوية مع شعبان وعرف طبيعته بعمق وعادةً ما يزور سكنه لتلبية حاجياته وعرفه على أخيه محمد جبران مدرس لغة عربية للصفوف الأولى ابتدائي ويمتاز محمد جبران بذكائه ومقالبه الصنعانية التي يتجنبها حتى اصحاب صنعاء القديمة وفي البداية جلس معه وتعرف عليه كثيراً وعن قرب ليزوره بين الوقت والاخر ويخرجه للتعرف على حارات و ساحات وبساتين وازقة صنعاء القديمة ويستمع لنكاته بشكل جيد ويتعرف على طبيعته وجوانب ضعفه بعمق وساعد على توزيعيه في احدى مدارس صنعاء (جمال جميل) بعد شهر من وصوله و درس مادة التربية الرياضية , وأوجد لشعبان عقد عمل تدريب العاب قوى في النادي الاهلي الرياضي (صنعاء) فترة مسائية ليدرب مجموعة من الشباب العاب القوى وفي الفترة الاولى للتدريب يلبس كفوفاً رياضية ويضع كمامة على وجهه أحياناً ، لم يكترث اليمنيين في البداية لتعامله نتيجة الفوارق الاجتماعية القائمة آنذاك بين مصر واليمن من خلال مشاهدتهم للأفلام المصرية التي تصور مصر من ارقى البلدان اجتماعيا ، حاول علي ومحمد جبران إخراج محمد شعبان من عزلته وتكييفه على الواقع لحبهم للمصريين ولهجتهم في المسلسلات. وحرصا كل خميس على زيارة شعبان واخراجه لصنعاء القديمة وحواريها و أزقتها وضمن برنامجهما أدخله محمد وعلي جبران سوق اللقمة(الاكل) في سوق الملح لتناول القنم " الكباب الصنعاني " ليتناولها بين الوقت والاخر ويتوقف ليتفرج على أشكال الناس وهم يأكلون وأصوات مواقد النار للشوي والطباخة وبائعات الملوج والخبز وبائعي الكدم " نوع من أنواع الخبز يستخدم لتغذية الجنود " ، وسأله محمد جبران عن انطباعه ليرد قائلاً: المشهد يذكرني بأحداث فلم محمد رسول الله وتخيلت نفسي ممثل فيه ، ليضحك محمد جبران قائلا :ليس لهذه الدرجة يا أستاذ شعبان ؟
ليرد شعبان هل تعتقد يا جبران إن السواح يأتون لليمن وخاصةً الأوروبيين للترفيه والراحة هم يأتوا ليتذكروا كيف كان أجدادهم يعيشون في القرون الوسطى ليضحك الجميع.
أتفق علي ومحمد جبران و محمد شعبان الخروج كل جمعة اضافة للخميس للتمشية في صنعاء القديمة وصلاة الجمعة بإحدى جوامعها وحدد جامع علي بن ابي طالب في الجمعة الاولى لخروجهم وحرص محمد جبران و أخيه على دعوة مجموعة زباجين ( فكاهيين ) من صنعاء القديمة ليرافقوهم ويصلون مع المصري محمد شعبان وانتظر محمد شعبان وعلي ومحمد جبران حتى وصول جماعتهم ليدخلوا الجامع مع بعض وعندما وصلوا عرفهم جبران على محمد شعبان والعكس وتخلل حديث المعرفة النكات لينكت اثنان من الزباجين على محمد شعبان والبقية يضحكون ولم يستطع محمد شعبان مجاراتهم حتى محمد وعلي جبران يضحكان معهما ولا يضحكان عندما ينكت شعبان ليضطر محمد شعبان لإسكاتهم قائلا ليس وقت الضحك دعونا نصلي الجمعة وعند دخولهم باب الجامع وجد محمد شعبان الناس يحلون سراويلهم عند باب الجامع ويضعونها مع الجزمات توقف محمد شعبان و أثار حل السراويل انتباهه وفزعه ليقول : إحنا داخلين نصلي و إلا من أجل شيء آخر معيب ؟ يا جماعة ويكررها حندخل نصلي و إلا إيه يا جماعة ؟؟؟ ليردوا عليه نعم . ليقول :ازاي؟ ، و أثناء الحوار مع الجماعة المرافقة له والداخلين للجامع للصلاة عرفوا مصدر خوف وقلق محمد شعبان من حل السراويل وطلبوا منه أن يخلع سرواله مثل البقية ليرفض وحاولوا حل سرواله ليقاوم ونشأ عراك قوي مع المجموعة والداخلين وهم يضحكون بينما شعبان متوتر ومستعد ان يقاتل ,مما أدى لردة فعله العنيفة ومحاولته الهرب مراراً ليعيدونه وعلى الرغم من قوة جسمه إلا أن كثرتهم أثارت ارتباكه وعند العراك ومحاولته الهرب مسكه أحدهم وراء رقبته وهذا معيب لدى المصريين ويوجد لديهم ردة فعل عنيفة للحفاظ على سمعتهم وهيبتهم ليزيد من اعتقاده أن لديهم أغراض ونوايا سيئة من حل السراويل وهكذا دارت معركة عراك كبيرة انتهت بهروبه وأصابته بضربة لا ارادية على أحد أسنانه وظلت تؤلمه طيلة الطريق ليشتم المصلين اليمنيين ويصفهم بالفجرة ولم يدرك تدبير مقلب محمد وعلي جبران ومرافقيهم، وذهب وقتها لمنزل مجموعة من المصريين المقيمين في اليمن منذ فترة فرأوا الدم يخرج من فمه أثر الضربة على سنه ووجدوه في حالة عصبية ليشرح لهم الحادث وضحكوا كثيراً وقالوا له : هذا مقلب يا شعبان و عادة اليمنيين عند دخولهم للجوامع يحلون سراويلهم لاعتقادهم أنها تنقض الوضوء لعدم طهارتها وتحدثوا عن أشكال السراويل وعدم نظافتها و تلونها للأصفر أو الرمادي الغامق والبعض تحدث عن عدم جواز لبسها بعد الوضوء والطهارة ووصف البعض البرك المستخدمة للوضوء والاستحمام والمضمضة وتغير لون مياهها و بعضها يغطيها طبقة سميكة من الطحالب ووصفوا الوضوء والمضمضة فيها بالمقزز وتكلموا عن دور وزارة الاوقاف في اعادة تأهيلها على اسس صحية وارشاد الناس حول نظافتهم الشخصية من ملابس وسراويل وأجسامهم كأساس للطهارة والعبادات ونصحوا محمد شعبان اذا اراد الصلاة في الجامع جماعة يتوضأ في منزله ويذهب للصلاة وأعطى أحد المدرسين محمد شعبان حبة مسكنة لتهدئة ألم السن وعندما حاول محمد شعبان إمساك سنته وجدها تتحرك حركة خفيفة ليأخذ من أحد الصيدليات مضاد حيوي ومسكنات .
عاد محمد شعبان لمنزله وأحس لأول مرة أن الفهلوي وقع في مقلب ومن اليمنيين بالتحديد وعرف ان محمد وعلي جبران دبراه وفي اليوم التالي قاما بزيارته وعندما وصلا صب عليهم جامَ غضبه ليضربهما ولوى ذراعيهما و أدخلهما الحمام وأغلق عليهما نصف ساعة واخرجهم وهو يردد : عملتوها يا أولاد الكلبة و جلسوا مع بعض ليشرحا لشعبان قصة السراويل ليرد عليهما : لقد عرفت ولماذا لم تفهموني الموضوع حينها ؟ وما معنى مجيء اصحابكم ومشاركتهم مع القادمين للجامع ورفع يديه عليهما مرة اخرى وتراجعوا للخلف وحلفوا يمينا ان الموضوع كان تلقائي واعتذروا عما حصل ، و سألهم عن الشخص الذي وضع يده على رقبته من الخلف ووصفه بالسفيه ليتذكرا الشخص وعنوانه وذهبوا مع بعض لقسم الشرطة وعندما طرح الموضوع ضحك كل من سمعهم وعابوا على الشخص التصرفات الغير لائقة الادب وارسلوا عساكر لإحضاره وفور حضوره أدخل السجن وحكم عليه بالسجن لمده أسبوع مع الغرامة لإساءة الأدب لضيوف اليمن وبالأخص ان الأستاذ أتى ليؤدي رسالة عظيمة.
انتشر خبر حادثة المصري وتناوله اهل صنعاء بالتعليق والضحك واقتنع محمد شعبان بعد سماعه تداول الخبر بضرورة التكيف على الحياة في اليمن قدر المستطاع وكان لاختلاطه باللاعبين والإداريين للنادي الاهلي أثر مساعدته و تكيفه وتقبل الكثير من العادات والتقاليد وتنازله عن النظافة الزائدة والأكل الخاص ليأكل ما يأكله اليمنيين من سلته وعصيدة وكدم.....الخ. وعلى الرغم من رفضه تناول القات لفترة طويلة إلا أنهم أحرجوه ان يجرب وعلى مضض ولكثرة إلحاح اليمنيين وإعطائه القات أصبح يخزن يومياً ويشعر بالكيف والقدرة على التخيل والحديث واذا جلس في المقيل يطغى حديثه على المخزنين لتزيد ملكته في النكتة والمداعبة ووصل لمرحلة الإدمان وصرف معظم دخله في تناول القات , ولبس شعبان الملابس الشعبية اليمنية من قبع وزنة (ثوب) وجنبية (الخنجر اليمني) وتعلم رقصة البرع بمساعدة وتشجيع الاداريين واللاعبين في النادي الاهلي لينظر لشكله في المراءة او امام المصريين وينكت على نفسه ويصبح شكله حديث البعثة المصرية في اليمن.
تخرج الكثير من لاعبي المصارعة في النادي الاهلي على يديه وأخذ النادي المركز الأول في الجمهورية وشارك في المباريات الإقليمية والدولية ،استمرت سنة محمد شعبان في الألم وزادت حركتها لتناوله القات و أقتنع بضرورة قلعها للتخلص من المها على أن يتم تركيبها بعد سفره لمصر ، وأخذه مجموعة من لاعبي النادي الاهلي والاداريين لشخص اسمه برقوق يقوم بختان الأطفال وقلع الأسنان وعندما وصل محمد شعبان وجد دكان صغير متسخ يملئه الذبان وتفوح منه رائحة المطهر بعد الختان ولم يعجبه شكل ومنظر المحل وأدوات الختان والقلع الغير نظيفة أو المعقمة ورفض قلع سنه وحاول مرافقيه اقناعه تنظيف وتطهير ادوات القلع امامه ليكرر رفضه ودخل احدهم يستدعي برقوق لإقناعه واخرج دفتر عليه قائمة طويلة من المسئولين الذين ختن وقلعت اضراسهم منهم من كان رئيس جمهورية ووزراء وكبار مسئولين وطمئنه بمعاملة خاصة من النظافة والتطهير والتقليل من الالم لكنه رفض لينكت على القائمة التي اخرجها برقوق وبدا يسال عن بعض اللاعبين والاداريين في النادي الاهلي ليخرج الدفتر مرة اخرى ويذكر اسمائهم ويضحك شعبان ويقول: سأقلعها بنفسي وسأل شعبان برقوق هل ما زال المسئولين الذين ختنتهم يتذكروك ؟ ليرد برقوق: أكيد ويحترموني ويدعونني بالعم محمد برقوق واذا طلبت شيء ما أو وساطة لا يترددوا بقبولها وتنفيذها, ليرد شعبان ضاحكا و قائلا :نعم لقد ارتسمت في عقولهم ومخيلتهم ليضحك الجميع ، وعاد شعبان ومرافقيه للنادي الاهلي و طرحوا عليه فكرة استخدام الخيط للقلع بربط طرف الخيط بالسن والطرف الآخر على حجر توضع فوق طاولة وعلموه كيف يرفع رأسه فجأة وبقوة وبعد الربط ظل خائفاً ومتردداً في رفع رأسه ليقوم أحد الإداريين بوضع يده في مؤخرته ليقفز ويرفع الحجر المربوط بالسن وينزع السن ليصفق الجميع وقال احدهم: نجحت يا شعبان وقفزتك الفجائية جعلت السن يخرج من عرقه(جذره) وقال اخر: هنا الحكمة اليمانية ليرد المصري ما هذه الحكمة التي تتحدثون عنها الاول دخل السجن وغرم والثاني اداري في النادي الاهلي ماذا نعمل معه؟ الله يسامحه وضحك الجميع وأخذوا قليل من الملح ووضعوه في مكان القلع واعطوه قطنه ليعض عليها.
ومع مضي أربع سنوات توصل محمد شعبان لقناعة عدم تجديد العقد لصرفه معظم دخله على القات على الرغم من المبلغ الكبير الذي يتقاضاه من التدريب والتدريس ، وعاد لمصر بدون سن وفي ذاكرته حب اليمن و ذكاء أهلها.

إرسال تعليق