التحدي..
لم يعد يحتك بالآخرين ، انحصرت حياته في بيته ، ومع زوجته الودودة. لكنه كان يخشى أَهلَها؛ فقد هَدَّدوه أنهم سيأخذون ابنتهم إن عاد لنوبات جنونه ؛ لا يُناسبهم أن يكون صِهرهم_كما زعموا_ (مجنونا).
نوبات جنونه لا تَمس حبيبته ، فهي وحدها من تفهمه ، بل من تستطيع أن تُهدِئ من غضبه إذا ما ثارَ.
ظلَّ على كرسيه ينتظر كأس العصيرِ ، جاءت به حبيبته مبتسمة كعادتها ، جلست بقربِه وأخذت رشفة من عصيره ؛ هو لا يشربُ حتى تشرب ...
لكنَّهما سمعا الباب ، نظرت إليه فأشار إليها أن تفتح بعد أن بدت على وجههِ ملامحُ الاستفهامِ ،هو لا يريد أن يرى أحدًا ؛ فهو عندما يُخالط الناسَ لا يكفون عن مضايقته واسماعه ما لا يرغب بسماعهِ ، أو أنهم يتصرفون معه بحذر شديد كأنه(غول) ؛ لذلك وجه حبيبته يكفي .
فتحت البابَ وإذ به والدها ، علمت حينها أنه لن يغادر إلا بمشكلة ، أدخلته إلى غرفة الاستقبال:
_ مرحبا أبي .. تفضل .
_ كيف حالك .
_ الحمد لله .
_ هل مازال ذلك الخفاش يُسكنكِ في الظلام ..؟
تقول ملاطفة:
أبي.... النور في قلبينا ثم ألا ترى كل هذه الشموع .
يقول ساخرا :
_ بَلهَاء مَن تعيش مع مجنون .
تتغير ملامحها كثيرا :
_ سأحضر لك شيئا تشربه .
_ لا أريد ، جِئت لأخبرك أن تخبريه ، أن الناس يشكونه إلي .... ألن يَكفَّ أذاه عنهم ..؟!
_ هم من يكف أذاهم عنه ... ألا ترى كيف أصبحت حالته ... ؟؟ لم يعد يرى وجه الشمسِ بسببهم ، ثم .....
قاطعها زوجها حين دخل عليهما ، بعد أن سمع الحديث :
_ مالذي جاء بِك ..؟
_ أفعالك التي جاءت بي يا سيد .
يقترب منه بعد أن وقف الأب ،وقدِ انتفخت أوداجهما ، واحمرَّت أعينهما .
حسنا .. وصلت رسالتك ، اخرج الآن .
يُجيب بتحدِِ:
هكذا إذا ... ليس قبل أن آخذ ابنتي أيها المعتوه .
_ لن تأتي معك .
_ بل ستأتي بالرضا أو بالرغم .
تقف حائرة بينهما ، لايستجيبان لتوسلاتها وتهدِئتها. يتناول زوجها(شمعدانا)بلمحِ البصر ، ويَشجُ به رأس عمهِ ، ينحني راكعا لشدةِ الضربة وقد أمسكَ برأسه . تهرعُ هي إلى زوجها ..أرجعته للخلف حتى أسندته إلى الحائط ، وقد أحمرَّ وجهها وانهمرت دموعها .
_ مالذي فعلته ..؟! إهدأ أرجوك .. إهدأ لأجلي .
أما هو فكعادته لا يَردُّ حبيبته . فاستدارت مسرعة ، وقد رفع والدها رأسه يتحسس الإصابة اقتربت منه :
_ أبي .. هل أنت بخير ؟
دفعها بشدة حتى سقطت أرضا ، وقد تطاير الشررُ من عينيه .
_ عليكِ اللعنة أنتِ وزوجك .
يتحسس هاتفه في جيبه ، وقد انفجر البركان في رأسهِ.
_ سأتصل بهم ؛ لِيأخذونك.. حيث لا رجعة .
تقترب منه حبوا حتى تعلقت برجليهِ ؛ متوسلة.
_ أبي أرجوك لا تتصل .. أبي .. أتوسل إليك ...
لكنه لا يستجيب .. مازال يفتش في هاتفه ، لكنه توقف حين قالت :
_ سآتي معك ؛ على ألَّا تتصل .
ينظر إليها غير مصدقا.. يجرها من ذراعها :
_ هيا ...
تأتي كلماتها هذه على مسامع زوجها كأنها صاعقٌ كهربائي ، لم يصدق ما سمعه ، هل ستتركه حقا ..؟! هل تخلت عنه ..؟!
خرجت مُقتادة ، التفتت إليه بعينيها الغارقتين ، لكنه لم يلتفت ، كأنه أصيب بالشلل ، حتى عيناه تسمرت على الجدار المقابل .
ظلَّ حيث أسندته ، كأنه جدارية قديمة على ذلك الجدار . انزلق للأسفل ، وكأنه ينزلق من منحدرِ جبلِِ شاهقِِ، طالتِ المسافة بينه وبين الأرضِ ، وكأنه ما وصل إلا وقد شابَ شعره . ظلَّ هناك حتى اليوم الآخر. لم يستطع تفسير ما حدث ؛ إلا ن عقله يُبررُ فعلتها:(هي فعلت ذلك لأجلك ؛ لأجل إبقائك حرا طليقا).
لكنه يعاني فقدها في الحالتين، هو لايسمع صوتها،ولايرى وجهها ، ولن تقدم له كوب الحليب في بداية يومهِ الأسودِ هذا. تذكرَ أن هناك بقاياها ورائحتها مازالت تملأ المكان ، نهض مسرعا حتى وصل خزانة ملابسها ، أخرج ما فيها وأخذ يحتضنها ويُلَملِمها حتى وضعها في حضنه ، هو عازم على ألَّا يعطيهم أغراضها ما إن عادوا ، فهي ما تبقى لديهِ منها . مرتِ الساعات وهو في مكانه لا يشعر بالوقتِ ، ولا يهتمُ به ، بل إنه خارج حدود الزمان .
يقطع وحشة سكونهِ صوت الباب ، حين طرق بشدة ، تستدير مقلتيه في محجريهما ، ينكمش على نفسه وملابسها...
_ لا لن أعطيهم مهما حدث ، لن يأخذوا منها شيئا .
تشتد طرقات الباب ، ويقرر المواجهة .. عليه أن يُرجعهم.. أن يتصدى لهم ، عليه أن يحتفظ بما تبقى له منها.
وقف وقد ملأ رئتيهِ بالهواء، بعد أن أرجع الدموع الفارة إلى عينيه .توجه إلى الباب ، وما إن استدار المفتاح حتى اندفع الباب بسرعة وارتمت في حضنه .
#زينب_الحداد
@Al_mashaaer

إرسال تعليق