-->

روائع الادب روائع الادب
random

آخر المواضيع

random
recent
جاري التحميل ...
recent

زهرة تتحدث

زهرة تتحدث


الخيال كان ولايزال صديقي الوحيد ،عزائي في كوني وحيدة ًمنذ أدركتُ الحياة ،فمنذ صغري وأنا لا أتفق مع من هم في مثل عمري ولا أستسيغ أفكارهم ولا مع الذين يصغرونني ولا مع الذين يكبرونني ،فالفتيات مدللات وأفكارهن ساذجة وتدفع بي للإشمئزاز ،والأولاد شرسون ومثيرون للمشاكل على الدوام فانصرفت عنهم دون رجعة لعالمي الخاص والسري جدا عالم لا وجود للمخلوقات البشرية فيه، عالم لي والخيال والطبيعة والأشياء الجامدة فقط ألعب فيه وأتعلم منه، وأذرف دموعي في حضرته ،أتسلل كل يوم من منزلي فجرا وأتحدث مع نفسي ثم مع ما حولي ونخوض أحاديث شيقة كلها تدور عن السلام والإطمئنان وصنع المعجزات في فضاء واسع لايدركه أحد ولا يحصره قانون أو قيد وهكذا توالت الأيام وأنا كل يوم أضيف لعالمي صديقاً جديداً :_قط،عصفور أصفر،شجرة معمرة،رصيف يكاد يهوي،ستائر حمراء،كتاب شعر رغم أني حينها لم أكن قد تعلمت التهجي،طبشوري ،فستاني السماوي ،وكنزتي الرمادية وأشياء كثيرة رحلت أسماؤها مع الزمن ،كنت أدرك جيدا أن كل أصدقائي لايتحدثون لكنهم يجيدون الإستماع لي ولقصصي الغريبة ،لتذمري من هوس شقيقي بالمقالب المرعبة ،لصراخي الغاضب من أمي التي تحب تسريح شعري دائما في حين أكره أنا ذلك.


يستمعون بإنصات ثم يمنحونني سرا من أسرارهم بلغة لايفهمها غيري مرة لإرضائي ومرات كثيرة لشكري كوني ؛أفتح لهم عالم البشر على مصراعيه بقصصي المختلقة والعشوائية ،يوما ما خذلوني جميعهم رأيت الكلب يعظ القط ورأيت الشجرة المعمرة تثور وتقذف بعش العصفور بعيدا ،رأيت الطباشير تلوث صفحات الكتاب ،رأيت الرصيف يسقط ممزقا الستائر المسدولة فوق النوافذ المطلة عليه ،شعرت بالفقد يعتصرني فكل هولاء أصدقائي ،وفي صباح اليوم التالي هربت فجرا نحو الجبل هربت من كل الأصدقاء الذين لطالما أحببتهم في الجبل الخالي من الأشجار والممتلئ حتى أقصاه بالشجيرات الشوكية والأعلاف، رأيت زهرة بنفسجية لم أرَ مثلها قط لا من قبل ولا من بعد ،كانت تضيء رغما عن الشمس وكان الضوء المنبعث منها يحدث عيون قلبي ودون شعور مني مسحت دموعي بتعجل كما تفعل طفلة جلبوا لها الحلوى وهي تبكي واقتربت منها ،مددت لها يدي الصغيرة ولففت أصابعي حولها في محاولة لقطفها ،لم أكن شريرة البتة فأنا منذ صغري لم أقطف زهرة ولم أرمِ حيواناً بحجر من قبل لكن ذلك الضوء الذي ملأني بالدهشة أخرجني من حيز الانبهار لحيز الأنانية المفرطة لولا صوتها الهامس والدافئ :

لاتقتليني أنا لست زهرة ،أنا فتاة كنت فتاة جميلة وصغيرة مثلك ،أرجوكِ لا تقتليني.

كانت كلمتها أغنية نعم أغنية وحده قلبي من استطاع إدراك مقاماتها الموسيقية ،جلست بجوارها انتظر بقية تلك الأغنية وأتلفتُ بخوف من أن يجدني أحدهم أحدّثُ زهرة .

 

تابعت هي كلامها بكثير من العطف وقليل من الشجن:

 

خدعني أصدقائي قالوا لي أن فتاة مثلي يجب أن تكون الجميلة الوحيدة على وجه الأرض ومن أجل ذلك كان يجب أن أقطف كل الزهور كي أبقى وحدي جميلة وندية ،كنت أصحو باكرا أفتش عن الزهور في الحقول والجبال ويوما ما ترجتني أميرة الزهور بأن لا أقتلها وبأن أكون صديقتها ،وعدتني أن تعلمني كيف أحدث الزهور وكيف أعرف أسماءها وعدتها بأن تكون سري الدفين ،حين انتهت من تعليمي تذكرت شغفي القديم وقلت لابد من أن تموت كي أبقى وحدي الجميلة وقطفتها ،تلك اللحظة حلت عليّ لعنة وتحولت لزهرة مضيئة لا يرى ضوئي سوى من لهم صلة عميقة بتلك الزهرة. 

 

توقفت الزهرة البنفسجية عن الحديث ومدت لي أغصانها لتمسح دموعي ،ثم فجأة دون سابق إنذار تحولتْ لفتاة مثلي لكن لون عينيها كان بنفسجيا وشهقت أنا بفزع وتراجعت خطوة للخلف أنوي الهرب لكنها تشبثت بي بقوة ثم عانقتني بحب. 

 

مرت ثوان منذ إسترجعت ثباتي وسمحت لها لتتابع كلامها لتقول:

 

كانت اللعنة بحاجة لدموع صادقة كي أعود فتاة مقابل أن تكون تلك الفتاة زهرة بدلا عني إلا أن أمراً غريباً حدث فأنت لم تتحولي لزهرة أبدا. 

 

كانت تدور حولي باستغراب تفتش عن بتلة أو غصن أو ورقة تنبت من جسدي دون جدوى لكنها نهاية الأمر شعرتُ بأن عبقاً ما يتطاير حولي ،ثم اكتشفتُ أن الجزء الوحيد الذي أزهر فيَّ كان قلبي ،ذرفت الدموع هذه المرة بدلا عني وكانت دموعها بنفسجية وشذية وأخرجت من بين شعرها بتلة بيضاء  صغيرة تشبه ورقة زهرة النرجس ومررت يدها على كفي اليمنى وتمتمت بكلمات لم أفهمها ،فيما بعد علمت أنها تعويذة زهرية وقالت لي بصوت هامس:

 

ستكون أصابعك سببا في نمو الزهور الرقيقة والندية في كل أرض قاحلة تمرين بها ،احتفظي بهذا السر عشرين عاما لكي لا تموت التعويذة،

وتبددت من أمامي كأنها رحيق

 

 وبقيتُ هناك وحدي أتحسسُ أصابعي الصغيرة كل حين حتى المغيب حين وجدني شقيقي الأكبر وسألني بغضب :

ماذا تفعلين هنا ؟!

فقلت له بصوت خائف:

 

أودع صديقتي البنفسجية. 

كان وجهه الغاضب موجها نحوي في حين رأيت ضوءاً يتسرب لعينيْ  قلبي من خلفه فتذكرت أن ماحدث يجب أن يبقى سرا فرفعت كلتا ذراعي لأخي كعادتي حين أعتذر وحين أتودد له ليحملني، وابتسم أخي ورفعني فوق كتفه وقال لي محذرا:

 

لا تكرريها صغيرتي أبدا.

 

 

 

أميمة راجح 

الأحد 

30/6/2019

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

تابعونا لتتوصل بجديد هشام هاشم

Carousel

جميع الحقوق محفوظة

روائع الادب

2016